12.01.2017
فتنة بسبب فتوى

عقد في غروزني في شهر آب / أغسطس  الماضي المؤتمر الإسلامي العالمي بعنوان "من هم اهل السنة ؟" ، ولكن النقاش الساخن حول نتائجه لم يتوقف حتى يومنا هذا.

وحضر فعاليات المؤتمر الإمام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر والداعية الصوفي الشهير الشيخ الحبيب علي الجفري وعدد من المشاركين الاخرين من الدول العربية ورجال الافتاء من المناطق الروسية. ولم يكد المشاركون في المؤتمر المغادرة والعودة إلى ديارهم حتى اندلعت في الوسط الإعلامي فضيحة أثر ذلك.  ونشرت الصحافة مواد أفادت بأن وفد مجلس شورى المفتين لروسيا غادر اللقاء في وقت مبكر لعدم موافقته على مضمونه وعلى الوثيقة الختامية.

وأصدر أحد أعضاء وفد مجلس شورى المفتين لروسيا الشيخ إيلدار علاء الدينوف مفتي مدينة موسكو توضيحا أشار فيه إلى أن الوفد  غادر غروزني كما كان مخطط له وقام الوفد خلال ذلك بإبلاغ منظمي الفعالية بذلك مسبقا. وفيما يتعلق بالوثائق، أوضح أن المشاركين في المؤتمر انهم تمكنوا من الإطلاع على نص الفتوى فقط في اليوم الثاني من الحدث، دون أن يتمكنوا من إجراء تعديلات في النص، وأعرب عن أمله في أن هذه الفرصة ستظهر لاحقا خلال المناقشات التالية وستؤخذ بالاعتبار آراء مجلس شورى المفتين لروسيا.


الجدل حول الحقائق والمفاهيم الخاطئة

بعد بضعة أيام لاحقة قام منظمو المؤتمر بنشر الوثائق الختامية للمؤتمر، وأهمها كانت الفتوى "حول العلامات الأساسية للتمييز بين الإسلام الحقيقي والضلال". ويجب القول إن المشاركين الذين أيدوا الفتوى تحدثوا عنها بحماس وبهجة وأغدقوا عليها الوصف والمديح: "ذات قيمة تاريخية" (فهيم شافييف) و" تم تنفيذ وتحقيق مقولات بوتين"( البير كرغانوف) و"منارة استرشاد بالنسبة الى الشباب" (شفيق بشيخاتشيف). وقال البعض إن المؤتمر كان مهما وآنيا جدا.

وأعلن فياتشسلاف بولوسين أن العلماء من الدول العربية اعترفوا بأنهم لم يتمكنوا بأنفسهم من صياغة بدقة ووضوح الموضوع: من هم أهل السنة والجماعة؟"

وبعد ذلك أخذ منظمو المؤتمر بالتوجه إلى المفتين في المناطق ( بما في ذلك إلى الذين لم يشاركوا في الفعالية) وطلبوا منهم الإعلان عن تضامنهم مع رأي الذين صاغوا الفتوى ووقعوا على الوثيقة.

وفي غضون ذلك، لاقى نص الفتوى الانتقادات الجدية من جانب بعض رجال الدين، ومن أوساط الخبرة.  وتشير الفتوى إلى ثلاثة معايير رئيسية لتحديد الانتماء إلى أهل السنة (التقاليد الإسلامية) - الإيمان والإسلام والإحسان.

المعيار الأول يعني الانتماء إلى أحدى المدرستين، الأشعرية أو الماتريدية وأما المعيار الثاني – فهو يعني الالتزام والسير على طريق أحد  المذاهب السنية الأربعة ، والمعيار الثالث - في عملية تهذيب النفس الاخلاقي، السير على طريق شيوخ الصوفية. والمأخذ الأساسي هو أن الوثيقة تعني عمليا أن أتباع التقاليد الصوفية هم فقط الذين ينتمون إلى فئة "المسلمين الحقيقيين" ورفض اعتبار المسلمين الاخرين ـ أتباع التقاليد الأخرى ـ من "أهل السنة".

ويجب القول إن وثائق المؤتمر الأخرى المرتبطة بالفتوى لعبت دورها أيضا في عملية رفض هذه الفتوى. ومن بين هذه الوثائق نداء المشاركين في اجتماع غروزني. وتحدث مؤلفو النداء عن جدوى تنفيذ  تفتيش خبرة جديدة في العقائد الرئيسية  للمنظمات الدينية  التي تعمل بالفعل على أسس مشروعة، وفي نفس الوقت عرضوا ضرورة انعكاس ما ورد في الفتوى حول "العلامات الوهابية" في التشريع الروسي. و من المنطقي أن نفترض أنه وحسب رأي الموقعين على الوثائق، فإن معظم المنظمات الدينية الإسلامية التي تعمل في روسيا بشكل مشروع والمسجلة قانونيا لا تفي بالمعايير الإسلام "الحقيقي".

وتثير الحيرة والاستغراب أيضا المزاعم الواردة في الوثائق التي تقول إن الفتوى أقرت من قبل جميع علماء الدين المسلمين في روسيا وملزمة  لكل المنظمات الإسلامية الروسية. وباتت مفهومة كلمات الشيخ إيلدار علاء الدينوف حول جوهر النص: "في رأيي، لا ينبغي لنا أن نتخذ قرارا متسرعا، حتى لا ننقسم ضمن أهل السنة وحتى لا يتم شطب واستبعاد جزء من المسلمين لم يتقيدوا بالمبادئ الدينية الأصيلة بسبب الجهل. ويجب القول إن القطعية وعدم المرونة والانغلاق تتعارض مع مفهوم أهل السنة الذي تميز دائما بصفات حميدة عديدة من بينها شمول الأغلبية" .

وفي 22 أيلول/ سبتمبر الماضي تلقى مكتب وديوان رئيس الإدارة الدينية  لمسلمي روسيا الاتحادية ومجلس شورى المفتين لروسيا الشيخ رواي عين الدين رسالة من مفتي الشيشان صلاح ميجييف عرض فيها الاخير التوقيع على نص فتوى غروزني وفي حال العكس طلب تبرير القرار وفقا للمعايير العلمية.  وفي  26 أيلول/ سبتمبر عقدت  في المسجد الجامع لموسكو الجلسة العمومية لمجلس شورى المفتين لروسيا وخلالها تمت مناقشة وبالتفصيل النص المذكور. وقام الشيخ راوي عين الدين في رسالة الرد بإبلاغ المفتي الشيشاني بنتائج بحث الموضوع.

وقال الشيخ راوي عين الدين في رسالته إن " مؤلفي الفتوى قاموا عن  قصد أو عن غير قصد ورغبة بتقسيم المسلمين بشكل قاطع إلى صديق وغير صديق وبالتالي وقعوا في صفوف الذين يقسمون الدين".

وفي ختام رسالته قال رئيس مجلس شورى المفتين لروسيا:" هذه الوثيقة تتطلب طبعا العمل لإنجازها ووفقا لثقتنا العميقة يجب القيام بذلك ليس على اساس المناقشات الثنائية المنفردة التي يقوم مفتي جمهورية الشيشان مع المنظمات الدينية الروسية المركزية ذات الشأن، بل ويجب أن يجري ذلك على أساس أوسع وعبر مناقشات وطنية في عموم روسيا تشارك فيها المطبوعات العلمية الدينية ووسائل الإعلام الدينية المتخصصة، التي تعمل كهيئات توعية إعلامية تابعة للإدارات الدينية المركزية  لمسلمي روسيا. وكان يمكن لهذه المناقشة أن تصبح بمثابة المقدمة العلمية لعقد مؤتمر تمثيلي ديني خاص".

وجاء رد مفتي الجمهورية الشيشانية بشكل فوري وكان مذهلا فعلا أنه تضمن على اتهامات زعمت بالتواطؤ  مع الوهابية وعدم الرغبة في محاربة التطرف. ولكن بعد عدة أيام تغيرت هذه اللهجة وقال ميجييف  في مقابلة صحفية انه لا يزال يأمل في أن المفتي راوي عين الدين سيوقِّع على الفتوى.


تحكيم شيوخ العرب

من جهة أخرى استند مؤيدو الفتوى خلال انتقادهم للمعترضين استندوا على هيبة اثنين من المشاركين العرب الرئيسيين في المؤتمر المذكور الذي عقد في آب/اغسطس الماضي وهما أحمد الطيب وعلي الجفري.

 وفي غضون ذلك، اندلعت ردود فعل حادة وشديدة في العالم العربي حول مؤتمر غروزني والمشاركين فيه. ووفقا لتقارير صحفية، أعلن رئيس الأزهر عند وجوده في غروزني أن السلفيين ليسوا من السنة. وطبعا بدون شك أثارت هذه العبارة عاصفة من المشاعر الحادة  بين علماء الدين الإسلامي. وعلى سبيل المثال لم يبخل رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين  يوسف القرضاوي في الأيام الأولى بعد المؤتمر، بالعبارات الحادة ووصف المشاركين في الفعالية "بشيوخ العار" والمؤتمر نفسه - "بمؤتمر ضرار ".

في تصريح خاص، أعلن القرضاوي رفضه القاطع لقرارات المؤتمر . وأعلن رجل دين إسلامي محترم آخر وهو الامين العام للمجلس العالمي للعلماء المسلمين علي محي الدين القره داغي أن مؤتمر غروزني مؤتمر يُفرق ولا يجمع ويزرع الفُرقة بدلاً من توحيد جهود الأمة الإسلامية.

والاكثر جدية كان البيان الصحفي خاص الذي صدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي (International Islamic Fiqh Academy) - قسم هيكلي تابع لمنظمة التعاون الإسلامي (سابقا - منظمة المؤتمر الإسلامي)، ثاني أكبر منظمة للدول في العالم. وشدد البيان على أنه في حزيران/يونيو وتموز/يوليو عام   2006 في الدورة السابعة عشرة مجمع الفقه الإسلامي الدولي توصل علماء العالم الإسلامي  إلى توافق في الآراء بشأن ملامح العقيدة. والحديث يدور هنا عن أحدى أهم  الوثائق اللاهوتية الأكثر شهرة في العالم الإسلامي في العصر الحديث - رسالة عمان.

وقام بالإعلان عن الوثيقة  لأول مرة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في عام 2004. ومن ثم في عام 2005 تم اعتمادها في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة، وبعد ذلك وفي غضون بضعة أشهر وافقت عليها ست جمعيات دولية مختلفة للعلماء المسلمين ، والاخيرة في هذا المجال كانت الموافقة عليها خلال دورة  مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة التي تمت الإشارة لها أعلاه. ومن بين الموقعين على رسالة  عمان  (العدد الإجمالي تجاوز 500 شخص)  كان الشيخ أحمد الطيب أيضا  (في ذلك الوقت كان يشغل منصب رئيس الجامعة الأزهر) وحبيب علي الجفري.  

ووفقا للبيان الصحفي المذكور الذي صدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بتاريخ 6 أيلول/سبتمبر 2016 يعتبر من أهل السنة كل من يقر بأسس الإيمان وأركان الإسلام ولا المعلومات التي تعتبر كجزء لا غبار عليه من الدين الإسلامي ( بما في ذلك التي تقر بشرعية التحريم الديني بما في ذلك القتل).

والجدل حول نص فتوى غروزني  (بالمناسبة، لم تترجم أصلا الى اللغة العربية واللغات الأخرى، على الرغم من أن العمل في المؤتمر جرى باللغة  العربية) حصل على تطور له  في 6 تشرين الاول/أكتوبر في مؤتمر "الدين ضد الإرهاب".  وانتقد محمد سلام محمدوف نائب رئيس إدارة رئيس الدولة الروسي في كلمته الموجهة إلى النائب الأول لرئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا ضمير محي الدينوف، موقف مجلس شورى المفتين لروسيا، وحثه على الانضمام إلى فتوى.

وفي وقت لاحق جرى حديث خاص بين محي الدينوف وموظف مسؤول عالي النفوذ في إدارة رئيس الدولة الروسي وخلاله تم إطلاع الموظف المذكور على موقف مجلس شورى المفتين لروسيا وموقف الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية حول الموضوع وشرح له مخاوف المنظمتين تجاه النص المقدم للفتوى وكذلك تم إطلاعه على عمل الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية في مجال وضع نص آخر للفتوى.

 

البديل لفتوى غروزني

 قامت الإدارة الدينية لمسلمي روسيا  الاتحادية بالتعاون مع رابطة تقارب المذاهب  (إيران) وأمانة المنتدى الإسلامي العالمي بتنظيم  في 18-20 تشرين الاول/أكتوبر في موسكو، أعمال المنتدى العالمي لتقريب المذاهب تحت عنوان "وحدة الإسلام - وحدة المسلمين: قاعدة للحوار". وفي كلمته التي القاها أمام المشاركين في الجلسة العمومية للمؤتمر تطرق ضمير محي الدينوف الى موضوع وضع معايير العقيدة، وأشار إلى تراث العالم الديني والصوفي العظيم أبو حامد الغزالي الذي يحظى بالتبجيل الكبير من قبل الصوفيين. وذكر محي الدينوف أن الغزالي وفي عمله " فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" قام وبشكل موسع ومفصل بتبرير البديل للمفهوم الحصري الاستثنائي للعقيدة. وفقا لهذا البديل التعددي، ينبغي أن يعتبر مسلما  أي شخص يعترف بالتوحيد، بنبوة محمد (ص) وحتمية حلول يوم القيامة. والبند الأساسي في كلمة محي الدينوف كان الدعوة إلى الاعتماد على رسالة عمان نفسها عند صياغة المسالك الحديدثة لمشكلة تحديد المؤمن وغير المؤمن لأن هذه الوثيقة تحظى بالاعتراف الإسلامي العام.

وجاءت مفاجئة ردود فعل الدراسات الإسلامية العلمانية على نتائج المؤتمر في غروزني. وانتقد رئيس الجمعية الروسية للدراسات الاسلامية البروفيسور توفيق إبراهيم، الفتوى ووصفها "بولادة الفتنة الجديدة". وفي كلمة له خلال المنتدى الاسلامي العالمي لتقريب المذاهب قال:"يثير الأسف فعلا عندما يتواصل المفتين فيما بينهم عبر وسائل الإعلام. هاهي تولد فتنة جديدة بدلا من توحيد الأمة الاسلامية".

ودعا العالم المذكور إلى عدم تبسيط مشكلة التكفير وعدم  تضليل الرأي العام بخصوص حلها. وقال توفيق ابراهيم: "يجب علينا ألا نخدع أنفسنا والاخرين وخاصة لا يجوز خداع هيئات سلطات الدولة. نحن نضعها في موقف حرج في الكثير من الاحيان. نحن نحرجها في الشيشان وعلى مستوى روسيا " .

ومباشرة بعد نهاية عمل المنتدى تم نشر النص المنقح للفتوى. واحتوى النص الجديد على تغييرات كبيرة ميزته عن النص الأصلي. وتسرد الوثيقة الجديدة "العلامات التي تدل على وجود طبيعة متطرفة لبعض الاتجاهات والتيارات ، ومعها على الخطر الاجتماعي". ويشمل ذلك على وجه الخصوص:

 1. الإصرار على تمتعها "الحقيقة الحصرية " و"انفرادها بالتصرف الصحيح" وعدم قبول آراء الآخرين.

2. محاولة الاعتداء على حياة أو ممتلكات الآخرين.

 3. تحقير والمس بكرامة وشرف المسلمين الآخرين، واعتبارهم من الضالين.

 4. التحريض  على مواجهات عسكرية بسبب التعصب الديني، وانتهاك السلام في المجتمع.

وعقد معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية يوم  25 تشرين الاول/أكتوبر مؤتمرا في موسكو تحت عنوان "الإسلام في روسيا: صلابة التقاليد والانفتاح على الحداثة ".

وشارك في الفعالية بعض المفتين الذين انضموا الى الفتوى وممثلين عن الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية.

وجاء في بيان صدر عن المؤتمر:" في ظروف روسيا الحديثة، وحسب اعتقادنا، تعتبر أية محاولة لطرح أحدى تقاليد الإسلام بشكل يتعارض مع تقليد آخر وكذلك التشكيك في الانتماء إلى الإسلام أتباع بعض المعتقدات والآراء الذين شغلوا منذ زمن طويل مكانهم في المجال الأيديولوجي للإسلام، لا يلبي المهمات والتحديات التي تواجه قبل المجتمع الإسلامي الروسي ولا يتفق مع روح التعددية في الإسلام ".

وتم الحديث أيضا عن ضرورة التصدي والكفاح بكل الوسائل الممكنة ضد وجهات نظر وآراء القادة العقائديين لكل المتطرفين والإرهابيين الذين يستخدمون شعار الاسلام في أغراضهم التدميرية.

وتحدث المفتي راوي عين الدين أيضا في المؤتمر العلمي - التعليمي الديني الدولي التاسع " تلاوات باسم عالم جان بارودي" وقال:" من السمات المميزة  لفكر التطرف هو الدراسة الانتقائية  للمصادر الإسلامية والتفسير السطحي إلى حد ما. وجنبا إلى جنب مع تقنيات وتكنولوجيات وسائل الإعلام وصناعة الترفيه يعطي هذا النهج أقوى تأثير. وفي ذات الوقت تتطلب الدراسة الجادة والمسؤولة للدين  المزيد من الجهد الفكري وليست متاحة للجميع. وفي هذا الصراع الأيديولوجي الحاد، يصبح كبيرا جدا إغراء الانحدار إلى مستوى المروجين للتطرف ويجري عمدا تبسيط الموقف الذاتي وإضفاء الصبغة الفظة المبتذلة عليه. ولكننا معكم ندرك حق الإدراك أنه من المستحيل تحقيق الهدف الواقف أمامنا والمتلخص في جعل التعليم الإسلامي الروسي قادرا على المنافسة مع المراكز العالمية للتعليم الإسلامي، ومهمة بعث وإحياء المدرسة الإسلامية الدينية الوطنية، بواسطة الطرق المبسطة ورفع "الشعارات واللافتات".  ويجب علينا الاقتداء بعلمائنا الدينيين العظماء وتوسيع الفكر الإسلامي وليس حصره في إطار التقاليد الوطنية والإقليمية. والإسلام التقليدي - وهو ظاهرة متعددة الوجوه ويتعلق الأمر بأراضي التواجد والتكوين العرقي لأتباعه ".


الدبلوماسية والعلوم الدينية

على خلفية هذا النقاش، لاحظ العديد ظهور البرود في العلاقات من جانب السلطات الرسمية السعودية تجاه رئيس الشيشان رمضان قادروف، الذي كان سابقا يحظى باهتمام خاص من جانب أهم نظام ملكي في العالم الإسلامي ويلعب دور الوسيط في العلاقات الروسية - السعودية. وبات معروفا أنه وخلال لقاء ايلول/سبتمبر الماضي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و نائب ولي عهد بالمملكة العربية السعودية  محمد بن سلمان بن عبد العزيز، قام الأخير بدعوة لزيارة المملكة رئيس انغوشيتيا يونس بيك يفكوروف الذي لم يكن يلاحظ له سابقا أي نشاط دبلوماسي خاص.  

 هل يجب التذكير بأن السلطات السعودية تعرف جيدا مدى الغيرة المتبادلة المعهودة بين رئيسي الجمهوريتين الروسيتين المتجاورتين وخاصة تجاه النجاحات السياسية وكذلك تعلم بالموقف المبدئي الذي يتمسك به يونس بيك يفكوروف حول ضرورة تطوير الحوار الصوفي - السلفي في جمهوريته؟ لقد تم استقبال رئيس إنغوشيتيا بحفاوة على أعلى مستوى، بما في ذلك القصر الملكي حيث تمت خلوته مع الملك سلمان. ومن المملكة رجع يفكوروف إلى الجمهورية وهو يحمل اتفاقات اقتصادية.

وفي 12 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، استضافت الكويت مؤتمرا دوليا تحت عنوان " المفهوم الصحيح لأهل السنة والجماعة وأثره في الوقاية من التطرف والغلو"" وكان واضحا جدا أنه تم تنظيم الفعالية بمثابة الرد على ما ورد في فتوى غروزني.  

ونسب المشاركون في المؤتمر أنفسهم إلى السلفيين وذلك وفقا للقرارات التي صدرت عنهم. ورفضوا فكرة ضم أو عدم ضم السلفيين إلى أهل السنة، وقالوا :"إن السلفيين هم أهل السنة والجماعة، وأنهم لا ينسبون أنفسهم الى الطوائف والأحزاب والتيارات أو الجماعات". ومن بين البنود الهامة لوثيقة الكويت أنها اعتبرت مؤسسي المدارس الدينية الأربعة (أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) كأئمة الفقه والتوحيد.

وفي يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر صدر عن شيخ الأزهر أحمد الطيب تصريحا غير متوقعا. وقال الشيخ في بث مباشر للتلفزيون المصري: "مؤسستنا التعليمية ، جامعة الأزهر، معنية ويهمها توحيد المسلمين. لكن هذا التوحيد لا يعني بتاتا تجميع للمسلمين في إطار مدرسة شرعية واحدة (مذهب) أو داخل مدرسة عقائدية معينة (عقيدة) ". واعتبر الشيخ أن السلفيين "جزء من أهل السنة"، وقال إن الهدف من زيارته لجمهورية الشيشان في آب/أغسطس الماضي كان "للتعرف على حياة ومناطق تعليم المسلمين في المنطقة". وقال شيخ الأزهر إنه لم يطلع  في المؤتمر على القرار ولم يتشاور أي احد معه حول ذلك.  

وقبل ذلك ، في يوم 30 ايلول/سبتمبر، قام الشيخ علي الجفري الذي يحظى بشعبية كبيرة في الشيشان/  حتى انه حصل على وسام أحمد قادروف/  بتفنيد مقولات مؤتمرغروزني وقال ان السلفيين والوهابيين يقعون بدون شك ضمن مفهوم أهل السنة (أي، لا يتم التشكيك بعقيدتهم ).

وحصل الخط الدبلوماسي للقصة على تطور  في 27  تشرين الثاني / نوفمبر الماضي خلال زيارة قام بها رمضان قادروف الى  المملكة العربية السعودية. خلال مرحلة الإعلان عن الزيارة ربطتها الصحافة العربية مع نتائج المؤتمر في 25 آب/أغسطس الماضي وقالت بصراحة إن الزيارة نظمت بهدف الاعتذار من السلطات السعودية. وفي حديث لصحيفة "الشرق الأوسط" دحض قادروف الاتهامات في محاولة تقسيم المسلمين وأعرب عن تقديره لشعب وقيادة في المملكة العربية السعودية (التزام البلاد إلى السلفية هو أمر بديهي)، مشددا على أن السعودية فعلت الكثير جدا لمكافحة الإرهاب.

وكان برنامج زيارة قادروف أكثر تواضعا بكثير من برنامج زيارة زميله من إنغوشيتيا. لقد التقى الرئيس الشيشاني مع نائب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وزار المدينة المنورة للصلاة  في المسجد النبوي. وكانت قليلة السطور التي تحدثت عن الزيارة في الموارد الرسمية السعودية والشيشانية ولم ترد فيها أي كلمات "توبة" من قبل الزعيم الشيشاني. ونقل المورد الرسمي لدولة الإمارات العربية المتحدة (حيث كان قادروف أيضا في زيارة) عن الرئيس الشيشاني قوله "حول محاولات لتقسيم الوحدة الإسلامية". وفقط صحيفة "سبق" العربية نقلت عن مصدر لم تذكر اسمه تأكيده على واقعة اعتذار قادروف وهو ما لاقى انعكاسه على الفور في المجال الإعلامي الناطق بالروسية وغيره. وعلى أي حال، ولمعرفتنا مدى حرص الزعيم الشيشاني على التدقيق في كل ما ينشر عن شخصه في وسائل الإعلام، فإنه يمكن الافتراض أنه لو لم تكن المعلومات المذكورة صحيحة كان سيصدر دحض لها على الفور.

وتجدر الإشارة إلى أنه تعتبر نادرة الحالة التي تثير فيها محتويات فعالية أو مؤتمر ديني إسلامي ( وهي تقام شهريا في مختلف البلدان بالعشرات) تثير ردود فعل قوية وتتصدر أجندة وجدول أعمال العالم العربي وتجذب انتباه وسائل الإعلام الغربية، و لفترة طويلة (في الواقع لمدة ثلاثة أشهر) ولا سابقة لها. والفتوى التي اعتمدت في روسيا وصدرت باللغة الروسية وأعدت للتنفيذ في روسيا، تسببت برد الفعل القوي هذا لأنها وعلى ما يبدو عرضت في التلفزيون وكأنها تجميع وتعاضد دولي للقوى الموالية للصوفية للدخول في مواجهة مع الحركة السلفية لا هوادة فيها.

بالنسبة الى المجتمع الاسلامي الروسي يمكن للحدث أن يتسبب بتفرق في صفوف النخب الاسلامية (ربما كان هذا الغرض الخفي للفعالية) وفي العالم العربي ( تجري نزاعات مسلحة في ثلاث دول على الأقل) يمكن لتطور الأحداث بهذا الشكل أن يؤجج الأمور بشكل درامي بين مختلف مجموعات الطبقات الواسعة من السكان.

لقد ركز المعلقون الأجانب انتباههم بشكل خاص على حقيقة أن المؤتمر في غروزني عقد بدعم من صندوق دعم الثقافة والعلوم والتعليم الإسلامي وإدارة الرئيس الروسي وقدموه على أنه رغبة واضحة من الدولة الروسية ( التي تثير تصرفاتها في سوريا رد فعل شديد في العالم الإسلامي بدون ذلك) لتزيد من تفاقم الأزمة السياسية الواسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط.

يمكننا أن نفترض أن الموظفين المسؤولين وخلال دعمهم  لمؤتمر غروزني كانوا يسترشدون بنية المساعدة لإحياء ونهضة المدرسة الدينية الروسية، وهو ما تحدث عنه الرئيس فلاديمير بوتين في عام 2013. ولكنهم تجاهلوا خلال ذلك كلمات رئيس الدولة الذي قال حينذاك: " إحدى أهم المهمات الحيوية - إعادة بناء مدرسة إسلامية خاصة بنا يمكنها ضمان سيادة المجال الديني الروسي ، وفي غاية الاهمية من الناحية المبدئية أن يتم الاعتراف بها من قبل غالبية علماء المسلمين في العالم".

وهكذا، يمكن القول إن نتائج مؤتمر غروزني التي تراجع عنها بشكل مطرد أهم المشاركين الأساسيين فيها كان لها اثنين من العواقب السلبية الكبيرة: جلبت الضرر للسياسة الروسية الخارجية في العالم الإسلامي وأظهرت الفشل الكامل لتنفيذ المهمات المطروحة في مجال اللاهوت الإسلامي.

بقلم ديلارا أحمدوفا – رئيسة قسم التحليل والإعلام لدى الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية