14.12.2020
موسكو
14.12.2020
موسكو
كلمة سماحة المفتي الشيخ راوي عين الدين الأمين العام للمنتدى الإسلامي العالمي، والتي ألقاها في الإجتماع السنوي السادس عشر للمنتدى الاسلامي العالمي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِهِ الْأَمِين، وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين، وَبَعْدُ:
أعزائي المشاركين في المنتدى الإسلامي العالمي السادس عشر
باسم المنتدى الإسلامي العالمي، وباسم خمسة وعشرون مليون مسلم، أبناء الأمة الإسلامية في روسيا الإتحادية، وباسمي شخصياً، أرحب بكم من صميم القلب في الإجتماع السنوي السادس عشرلمنظمتنا (المنتدى الإسلامي العالمي)
اليوم، كل واحد منا يجد نفسه محتجز داخل حدود منزله أومكتبه، وكل منا مهتم بدرجة أو بأخرى بالقضايا المتعلقة بصحته والحفاظ على حياته. وبفضل انتشار جائحة كوفيـد-19 أخذ كل منا يعود إلى نفسه وفضائه الفردي الخاص به، ومسؤوليته الشخصية.
وفي هذا الواقع الوبائي، تجد كل شخص مساوٍ لنفسه، ولم يعد بإمكانه الاختباء وراء أي مكانة إجتماعية، أوجماهيرية، أو أُبَّهة "عظمة" البيئة الخارجية المحيطة. وتلك المصاعب التي واجهتها كل من النظام الصحي العالمي وحكومات معظم دول العالم كانت قد بددت الأوهام المتعلقة بالرفاهية والتحكم والأنطمة النافذة، وعلى ما يبدو تُرِكَ الإنسان وحيداً في مواجهةٍ مع نفسه، ومع كل ما يعتريه من مخاوف وقلق.
والحالة التي وجدنا أنفسنا فيها اليوم، على الرغم من أنها لا تحمل في طياتها مصاعب معيشية أونفسية، جعلتنا أكثرمن أي وقت مضى نقترب من لحظة الحقيقة، ودفعتنا إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين من حولنا.
لقد أصبح الوباء تربةً خصبةً لتقوية الحالة المزاجية التي تعرقل الوجود المتناغم والتطورالمنهجي في المجتمعات، وهي تتمثل في تعزيز الفكرالخرافي السحري، والتي من سماتها المميزة الإعتقاد بعدم فهم العالم، وتلك القوانين التي يقوم على أساسها. إلى جانب ذلك يدفع الخوف والعجزالإنسان إلى ملجأ نفسي، يتجلى في الاعتقاد بجميع أنواع الخرافات والأحكام المسبقة. سواء كان ذلك إنكاراً لوجود العدوى بفيروس كورونا أوالإعتقاد بأن أيدي ما وراء منشأه وانتشاره. والقليل من هم يستطيعون مقاومة إغراءات الهروب من الفهم العميق لهذا للوباء والأسئلة الأخلاقية والروحية التي يطرحها على البشرية، مفضلين في الوقت ذاته الاختباء خلف ستار من الإنكار وتوجيه اللعنات.
واليوم، تماماً كما كان يفعل أسلافنا، يفضل الكثيرون أن ينسب كل ما نصادفه في حياتنا من أمورغيرمفهومة ومثيرة للخوف، على أنها من صنع قوى الشر والشياطين التي يتوجب تجميعها وحبسها في الزنازين، حتى من دون محاولة فهم المعنى الروحي لهذا الإلتقاء. في حين أن المعنى القابع ضمن أي اختبار يمكن أن نصادفه في حياتنا – يمكن فهمه على أنه لقاء مع الخالق، وفرصة لفهم حكمته ورحمته.
وفي نفس منحى هذا التفكير الخرافي، يكمن ذلك المنطق الذي يقسم العالم إلى فريقين "نحن" و "هم"، إلى فريق يمثل من هم منا وفريق آخر يمثل الغرباء عنا. ومع ذلك تعالوا نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل هذا التراجع السريع للبشرية نحو الوعي الخرافي تمت ملاحظته فقط في حالة انتشار الوباء؟
إنني أميل إلى الإعتقاد بأن الوباء كان عاملاً محفزاً لهذه العملية، ولكنه لم يكن السبب الجذري لهذا التراجع. وفي موازاة ذلك، ومع انتشار الوباء، لاحظنا في العام 2020م، عملية غرس لإيديولوجيا "صراع الحضارات"، والتي تؤكد على أن تواجد ممثلين عن مختلف التقاليد الدينية، وبشكل متزامن ضمن صفوف الحضارات والشعوب الأكثر تطوراً، هو أمر مستحيل بشكل مبدئي.
إن المنطق القائل بأننا "نحن" لايمكننا تحقيق السعادة والإزدهار طالما "هم" موجودون، والآخرون هنا وفقاً لرؤيتهم، هم الأفراد والمجتمعات، هو منطق في غاية الخطورة.
وبحسب هذا المنطق، فإن اللقاء مع المجهول، أومع الجديد، وفوق ذلك كله مع غيرالمفهوم – هو عداوة لا تقبل المصالحة فيها، وليس اختبار أوتجربة.
هذا التعطش للمواجهة ورفض التعايش يتكشفان بشكل جلي في عمليات الإنتقام المجنونة والإجرامية والتي ترتكب كما يُزعَم دفاعاً عن شرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم). ويتكشفان أيضاَ في السياسات غير العقلانية مطلقاً، والرامية إلى تشويه سمعة الإسلام والتشهير به، و وضع المجتمع المسلم في موضع المنبوذين ضمن ما يسمى بالعالم المتحضر.
وبكل مرارة شاهدنا تلك المحاولات التي تهدف إلى تصوير الصراع العسكري الأخير في جنوب القوقازعلى أنه صراع بين الأديان، الشيء الذي نعتبره أمراً غيرمقبول على الإطلاق وبعيداً عن المسؤولية.
لقد عملنا خلال انعقاد الإجتماعات السنوية للمنتدى الإسلامي العالمي، على إيلاء مسألة التغلب على الأفكارالمسبقة وعلى التفكير التصادمي والحصري، أهمية خاصة. وتحديداً ابتداءً من المنتدى اليوبيلي العاشر، واجتماعات المنتدى الإسلامي العالمي تعقد تحت راية الأفكارالإنسانية القرآنية والرحمة الإلهية الشاملة التي وسعت شيء.
المفكر الإسلامي الكبير أبو نصر الفارابي، والذي يُحتَفلُ هذا العام بعيد ميلاده الـ1150 برعاية اليونسكو، وبعد أن توصل إلى استيعاب وإدراك المعاني العميقة للوحي، قام بصياغة نظرية المدينة الفاضلة، التي يتحقق فيها عظيم الخير وعلوَّ الكمال. لقد أكد هذا المعلم الكبير أن خير الناس وسعادتهم ينبعان تحديداً من تضامنهم الحقيقي والمتكامل، " إن المدينة التي تكون وحدة الناس فيها متجلية بمد يد العون إلى بعضهم البعض في الأمورالتي تجلب وتحقق لهم السعادة الحقيقية، هي مدينة مثالية، والمجتمع الذي يساعد فيه الناس بعضهم بعضاً لتحقيق السعادة هو مجتمع مثالي". يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:"وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان" سورة المائدة، الآية 2
الحمد لله خالق السموات والأرض، على أن جعل لتلك المعاني التي عكستها مناقشاتنا وتأملاتنا ترجمة تطبيقية مباشرة. فبعد أكثرمن ألف عام من التباعد والفرقة والنزاع المتبادلين، نشهد اليوم تقارباً أساسياً بين اثنتين من أكبر الديانات في العالم: المسيحية والإسلام.
وكان اللقاء التاريخي الذي جمع بين قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وفضيلة الإمام الأكبرالشيخ الدكتورأحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، في العام 2019م، علامةً فارقةً تشير إلى بدء مرحلة جديدة في هذه العملية.
وفي شهر أكتوبرمن ذلك العام، حظي هذا اللقاء باستمراره المنطقي، وذلك عبر مبادرة قداسة البابا فرنسيس التاريخية: ونحن هنا نتحدث عن الرسالة العامة التي أطلقها قداسة البابا بعنوان "فراتيللي توتي" - "جميعنا أخوة". ومن هنا، يمكننا أن نستنتج أن الأفكار المركزية لهذه الرسالة العامة تتوافق إلى حد كبير مع القيم الأساسية للإسلام وتراثه الفكري.
وبطبيعة الحال، فإن الرسالة التي احتوتها هذه الوثيقة جاءت متوافقةً مع المواقف التي يتم صياغتها والدفاع عنها في جميع منصات النقاش الدولية لمنتدانا: في موسكو، ولندن، وهلسنكي، وبرلين، وباريس. ونحن بدورنا نعرب عن ترحيبنا وتأييدنا الكامل للمبادرة الأخوية لقداسة البابا فرنسيس، وكتعبيرعن هذا التضامن والإنسجام تأتي عبارة "ثقافة اللقاء" لتجد انعاكساً لها في عنوان المنتدى الإسلامي العالمي السادس عشر. فالله سبحانه وتعالى يدعونا في محكم تنزيله بقوله: " ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة" سورة البقرة، الآية 208
لقد شهدنا وإياكم تفاقم الصراع العسكري في إقليم ناغورني كاراباخ، حيث قتل الآلاف من الناس، وتم تدنيس أكثر من 70 معبداً مقدساً للإسلام والمسيحية. وفي الوقت الحاضر، وبفضل الجهود المشتركة، وبمشاركة مباشرة من الإتحاد الروسي، وشخصياً من قبل رئيس الدولة، تم التوصل إلى توقيع اتفاق سلام في المنطقة.
مع ذلك، فإن الأضرارالتي تسببت بها الحرب كبيرة ولا يمكن تجاوزها، والجراح العميقة لم تطال فقط الأجساد، بل طالت حتى النفوس والذكرة الجماعية للناس.
ولهذا السبب، وفي إطار منتدانا هذا، ينبغي إيلاء مسألة إدراك المفاهيم الأساسية لعصرنا مثل: حرية التعبير، وحرية الإعتقاد، واحترام مشاعرالمؤمنين، والتسامح والتضامن اهتماماً خاصاً. ويجب ترجمة نتائج واستنتاجات حوارنا، من خلال تحويلها إلى مبادرات عامة وإنسانية ملموسة.
وأود أن أتطرق بشكل منفصل إلى موضوع ما يسمى بـ "إصلاح الإسلام"، والذي ينادي به الآن المسؤولون الأوروبيون المعروفون وممثلو بعض الجماعات الدينية، الذين دأبو على تقديم عملية أصلاح الإسلام المفترضة، على أنها نوع من العلاج الشافي، والذي سيسمح للإسلام "المتخلف" أن يصبح متناسباً مع الحقائق الجديدة، حيث يسود سيطرة مفاهيم حقوق وحرية الإنسان.
وفي الوقت نفسه، يمكن لهذا العنف الذي ترتعش الأرض بسببه، أن يختبأ وراء أي أفكار جيدة، لكنه في الواقع لايمكنه أن يعكس أياً منها. وتعالو لكي نتذكرمعاً الوضع المقلق الذي يعيشه شعبين مسلمين آخرين - الأويغور والروهينجا. وفي كتابي الذي صدرمؤخراً تحت عنوان "دعونا نحلم:الطريق إلى مستقبل أفضل"، دعوت قداسة البابا فرانسيس إلى أن يولي هذا الموضوع الإهتمام اللازم.
ومن هنا يتضح لنا أن الحديث عن "إصلاح الإسلام" الذي يسمح ممثلو بعض المؤسسة السياسية وممثلي الديانات الأخرى لأنفسهم الخوض فيه، هو ديماغوجية لا طائل من ورائها.
لقد أثرت ظواهرالأزمة في عصرنا الراهن على جميع التقاليد الدينية العالمية دون استثناء. وهنا لا يمكن أن يكون هناك فريق من "الجيدين" و"التقدميين" أمام فريق آخرمن "السيئين" و"المتخلفين". وأي محاولة لعرض الموضوع بهذا الأسلوب، لن تكون أكثر من ديماغوجية عديمة المعنى. ولعل جميع الأديان اليوم بحاجة إلى إصلاحات إيجابية تقوم على مبادىء الإحترام المتبادل، والحوار، والتضامن، والإنسانية.
لقد كنا ندعو إلى ذلك في جميع فعالياتنا، واليوم نكرر دعوتنا هذه دون كلل أوملل – سيما في هذه الأيام حيث المحن الصعبة، عندما تكون وحدة البشرية قضية ملحة أكثر من أي وقت مضى.
إننا نشعربالسعادة تغمرنا اليوم، عندما نسمع أصوات التضامن تصدح من قبل أخوتنا – المسيحيين و اليهود والبوذيين وجميع أصحاب النوايا الحسنة. ونعتبرهذا فألاً حسناً، يشير إلى أن البشرية أدركت بأن الجائحة الوبائية هي إشارة ربانية، سوف تدفع الناس نحو الوحدة الحقيقية على أساس القيم المشتركة، وستؤدي بهم إلى فهم عميق لقدسية الحياة ولفهم الطبيعة الثانوية للخلافات القائمة، ودفعهم إلى الإلتقاء التاريخي، الذي سيصبح أساساً موثوقاً للثقافة العالمية.
ودمتم بحفظ الله ورعايته.

10 ديسمبر 2020م